فصل: تفسير الآية رقم (74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (74):

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}
قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} يبست وجفت، جفاف القلب: خروج الرحمة واللين عنه، وقيل: غلظت، وقيل: اسودت، {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} بعد ظهور الدلالات. قال الكلبي: قالوا بعد ذلك: نحن لم نقتله، فلم يكونوا قط أعمى قلبا ولا أشد تكذيبا لنبيهم منهم عند ذلك {فهي} أي في الغلظة والشدة {كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} قيل: أو بمعنى بل وقيل: بمعنى الواو كقوله تعالى: {مائة ألف أو يزيدون} [147- الصافات] أي: بل يزيدون أو ويزيدون، وإنما لم يشبهها بالحديد مع أنه أصلب من الحجارة، لأن الحديد قابل للين فإنه يلين بالنار، وقد لان لداود عليه السلام، والحجارة لا تلين قط، ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ} قيل: أراد به جميع الحجارة، وقيل: أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى للأسباط {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء} أراد به عيونا دون الأنهار {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} وقلوبكم لا تلين ولا تخشع يا معشر اليهود. فإن قيل: الحجر جماد لا يفهم، فكيف يخشى؟ قيل: الله يفهمه ويلهمه فيخشى بإلهامه.
ومذهب أهل السنة والجماعة أن لله تعالى علما في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقل، لا يقف عليه غيره، فلها صلاة وتسبيح وخشية كما قال جل ذكره: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [44- الإسراء] وقال: {والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه} [41- النور] وقال: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر} [18- الحج] الآية، فيجب على المؤمن الإيمان به ويكل علمه إلى الله سبحانه وتعالى، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على ثبير والكفار يطلبونه فقال الجبل: انزل عني فإني أخاف أن تؤخذ علي فيعاقبني الله بذلك فقال له جبل حراء: إلي يا رسول الله.
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ثنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي أنا أحمد بن محمد بن عبد الوهاب النيسابوري أنا محمد بن إسماعيل الصائغ أنا يحيى بن أبي بكر أنا إبراهيم بن طهمان عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن» هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن أبي بكر. وصح عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع على أحد فقال: «هذا جبل يحبنا ونحبه» وروي عن أبي هريرة يقول، صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ثم أقبل على الناس بوجهه وقال: «بينما رجل يسوق بقرة إذ عيي فركبها فضربها فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا لحراثة الأرض» فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم!؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإني أومن به أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم» وقال: «بينما رجل في غنم له إذ عدا الذئب على شاة منها فأدركها صاحبها فاستنقذها، فقال الذئب: فمن لها يوم السبع؟ أي يوم القيامة، يوم لا راعي لها غيري» فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم؟ فقال: «أومن به أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم»، وصح عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اهدأ أي: اسكن. فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد» صحيح أخرجه مسلم.
أنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو سعيد يحيى بن أحمد بن علي الصانع أنا أبو الحسن علي بن إسحاق بن هشام الرازي أنا محمد بن أيوب بن ضريس البجلي الرازي أنا محمد بن الصباح عن الوليد بن أبي ثور عن السدي عن عبادة بن أبي يزيد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في نواحيها خارجا من مكة بين الجبال والشجر، فلم يمر بشجرة ولا جبل إلا قال السلام عليك يا رسول الله».
أنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد، فلما صنع له المنبر فاستوى عليه اضطربت تلك السارية وحنت كحنين الناقة حتى سمعها أهل المسجد، حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقها فسكنت».
قال مجاهد: لا ينزل حجر من أعلى إلى الأسفل إلا من خشية الله، ويشهد لما قلنا قوله تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} [21- الحشر].
قوله عز وجل: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ} بساه {عَمَّا تَعْمَلُونَ} وعيد وتهديد، وقيل: بتارك عقوبة ما تعملون، بل يجازيكم به، قرأ ابن كثير يعملون بالياء والآخرون بالتاء.

.تفسير الآيات (75- 76):

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76)}
قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ} أفترجون؟ يريد: محمدا وأصحابه {أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} تصدقكم اليهود بما تخبرونهم به {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} يعني التوراة {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} يغيرون ما فيها من الأحكام {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} علموه كما غيروا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كاذبون، هذا قول مجاهد وقتادة وعكرمة والسدي وجماعة وقال ابن عباس ومقاتل: نزلت في السبعين الذين اختارهم موسى لميقات ربه، وذلك أنهم لما رجعوا- بعدما سمعوا كلام الله- إلى قومهم رجع الناس إلى قولهم، وأما الصادقون منهم فأدوا كما سمعوا، وقالت طائفة منهم: سمعنا الله يقول في آخر كلامه إن استطعتم أن تفعلوا فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا، فهذا تحريفهم وهم يعلمون أنه الحق.
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} قال ابن عباس والحسن وقتادة: يعني منافقي اليهود الذين آمنوا بألسنتهم إذا لقوا المؤمنين المخلصين {قَالُوا آمَنَّا} كإيمانكم {وَإِذَا خَلا} رجع {بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ}- كعب بن الأشراف وكعب بن أسد ووهب بن يهودا وغيرهم من رؤساء اليهود- لأمرهم على ذلك {قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بما قص الله عليكم في كتابكم: أن محمدا حق وقوله صدق. والفتاح القاضي.
وقال الكسائي: بما بينه الله لكم من العلم بصفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ونعته، وقال: الواقدي: بما أنزل الله عليكم، ونظيره: {لفتحنا عليهم بركات من السماء} [44- الأنعام] أي أنزلنا، وقال أبو عبيدة: بما من الله عليكم وأعطاكم {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ} ليخاصموكم، يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويحتجوا بقولكم عليكم فيقولوا: قد أقررتم أنه نبي حق في كتابكم ثم لا تتبعونه!! وذلك أنهم قالوا لأهل المدينة حين شاوروهم في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم: آمنوا به فإنه حق ثم قال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما أنزل الله عليكم لتكون لهم الحجة عليكم {عِنْدَ رَبِّكُمْ} في الدنيا والآخرة وقيل: إنهم أخبروا المؤمنين بما عذبهم الله به، على الجنايات فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما أنزل الله عليكم من العذاب ليحاجوكم به عند ربكم، ليروا الكرامة لأنفسهم عليكم عند الله وقال مجاهد: هو قول يهود قريظة قال بعضهم لبعض حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «يا إخوان القردة والخنازير» فقالوا: من أخبر محمدا بهذا؟ ما خرج هذا إلا منكم، {أَفَلا تَعْقِلُونَ}.

.تفسير الآيات (77- 79):

{أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}
قال الله تعالى: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} يخفون {وَمَا يُعْلِنُونَ} يبدون يعني اليهود.
وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} أي من اليهود أميون لا يحسنون القراءة والكتابة، جمع أمي منسوب إلى الأم كأنه باق على ما انفصل من الأم لم يتعلم كتابة ولا قراءة.
وروي عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنا أمة أمية أي لا نكتب ولا نحسب» وقيل: هو منسوب إلى أم القرى وهي مكة {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ} قرأ أبو جعفر: أماني بتخفيف الياء كل القرآن حذف إحدى الياءين تخفيفا وقراءة العامة بالتشديد، وهي جمع الأمنية وهي التلاوة، قال الله تعالى: {إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} [52- الحج] أي في قراءته، قال أبو عبيدة: إلا تلاوته وقراءته عن ظهر القلب لا يقرءونه من كتاب، وقيل: يعلمونه حفظا وقراءة لا يعرفون معناه. وقال ابن عباس: يعني غير عارفين بمعاني الكتاب، وقال مجاهد وقتادة: إلا كذبا وباطلا قال الفراء: الأماني: الأحاديث المفتعلة، قال عثمان رضي الله عنه: ما تمنيت منذ أسلمت أي ما كذبت، وأراد بها الأشياء التي كتبها علماؤهم من عند أنفسهم ثم أضافوها إلى الله عز وجل من تغيير نعت النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، وقال الحسن وأبو العالية: هي من التمني، وهي أمانيهم الباطلة التي تمنوها على الله عز وجل مثل قولهم {لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} [111- البقرة] وقولهم: {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} [80- البقرة] وقولهم {نحن أبناء الله وأحباؤه} [18- المائدة] فعلى هذا تكون إلا بمعنى لكن أي لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون أشياء لا تحصل لهم {وَإِنْ هُمْ} وما هم {إِلا يَظُنُّونَ} وما هم إلا يظنون ظنا وتوهما لا يقينا، قاله قتادة والربيع، قال مجاهد: يكذبون.
قوله تعالى: {فَوَيْل} قال الزجاج: ويل كلمة يقولها كل واقع في هلكة، وقيل: هو دعاء الكفار على أنفسهم بالويل والثبور، وقال ابن عباس: شدة العذاب، وقال سعيد بن المسيب: ويل واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لانماعت من شدة حره.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال أنا عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث أنه حدث عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره، والصعود جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي فهو كذلك».
{لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} وذلك أن أحبار اليهود خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم وسلم المدينة، فاحتالوا في تعويق اليهود عن الإيمان به فعمدوا إلى صفته في التوراة، وكانت صفته فيها: حسن الوجه، حسن الشعر، أكحل العينين، ربعة، فغيروها وكتبوا مكانها طوال أزرق سبط الشعر فإذا سألهم سفلتهم عن صفته قرءوا ما كتبوا فيجدونه مخالفا لصفته فيكذبونه وينكرونه، قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} يعني ما كتبوا بأنفسهم اختراعا من تغيير نعت محمد صلى الله عليه وسلم {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} المآكل ويقال: من المعاصي.

.تفسير الآيات (80- 83):

{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
{وَقَالُوا} يعني اليهود {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} لن تصيبنا النار {إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} قدرا مقدرا ثم يزول عنا العذاب ويعقبه النعيم واختلفوا في هذه الآية، قال ابن عباس ومجاهد: كانت اليهود يقولون: هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما واحدا ثم ينقطع العذاب بعد سبعة أيام. وقال قتادة وعطاء: يعنون أربعين يوما التي عبد فيها آباؤهم العجل، وقال الحسن وأبو العالية: قالت اليهود: إن ربنا عتب علينا في أمرنا، فأقسم ليعذبنا أربعين يوما فلن تمسنا النار إلا أربعين يوما تحلة القسم، فقال الله عز وجل تكذيبا لهم: {قُلْ} يا محمد {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ} ألف استفهام دخلت على ألف الوصل، عند الله {عَهْدًا} موثقا أن لا يعذبكم إلا هذه المدة {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} ووعده قال ابن مسعود: عهدا بالتوحيد، يدل عليه قوله تعالى: {إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا} [87- مريم] يعني: قوله لا إله إلا الله {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}.
ثم قال: {بَلَى} وبل وبلى: حرفا استدراك ومعناهما نفي الخبر الماضي وإثبات الخبر المستقبل {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} يعني الشرك {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} قرأ أهل المدينة خطيئاته بالجمع، والإحاطة الإحداق بالشيء من جميع نواحيه، قال ابن عباس وعطاء والضحاك وأبو العالية والربيع وجماعة: هي الشرك يموت عليه، وقيل: السيئة الكبيرة. والإحاطة به أن يصر عليها فيموت غير تائب، قاله عكرمة والربيع بن خيثم وقال مجاهد: هي الذنوب تحيط بالقلب، كلما أذنب ذنبا ارتفعت حتى تغشى القلب وهي الرين. قال الكلبي: أوبقته ذنوبه، دليله قوله تعالى: {إلا أن يحاط بكم} [66- يوسف] أي تهلكوا {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} في التوراة، والميثاق العهد الشديد {لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {لا يعبدون} بالياء وقرأ الآخرون بالتاء لقوله تعالى: {وقولوا للناس حسنا} معناه ألا تعبدوا فلما حذف أن صار الفعل مرفوعا، وقرأ أبي بن كعب: لا تعبدوا إلا الله على النهي {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي ووصيناهم بالوالدين إحسانا، برا بهما وعطفا عليهما ونزولا عند أمرهما، فيما لا يخالف أمر الله تعالى: {وَذِي الْقُرْبَى} أي وبذي القرابة والقربى مصدر كالحسنى {وَالْيَتَامَى} جمع يتيم وهو الطفل الذي لا أب له {وَالْمَسَاكِينِ} يعني الفقراء {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} صدقا وحقا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم فمن سألكم عنه فاصدقوه وبينوا صفته ولا تكتموا أمره، هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير وابن جريج ومقاتل، وقال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، وقيل: هو اللين في القول والمعاشرة بحسن الخلق. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب: حسنا بفتح الحاء والسين أي قولا حسنا {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن العهد والميثاق {إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ} وذلك أن قوما منهم آمنوا {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} كإعراض آبائكم.